الدكتور أنور لوقا على الحدود بين الثقافات
July 2, 2013
باريس ـ من الطيب ولد العروسي: يعتبر النقاد والمهتمون بحوار الحضارات والثقافات، أن المثقفين العرب الذين يعيشون في المهاجر يمثلون جسورا قوية بين الأنا والآخر.
فهم يعيشون التماس مع الآخر الذي هو جزء من وجودهم، ولعل الدكتور أنور لوقا يعتبر واحدا من هؤلاء المثقفين العرب الذين كتبوا عن الأنا وعن الآخر بوعي كبير، ومعرفة عميقة للمواضيع التي تناولها، أي يلعب دور الوساطة الثقافية، وهذا ما نراه في الكتاب الذي صدر حوله بعنوان: أنور لوقا والاستغراب الإيجابي’، الصادر حديثا (2013) في القاهرة عن المركز العربي للدراسات الغربية، ويقع في 135 صفحة من الحجم المتوسط، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات والأبحاث التي تطرقت إلى الدكتور لوقا من جوانب متعددة، إذ ساهم في هذا الملف التكريمي مفكرون وكتاب من المغرب والمشرق العربي، والكل يتفق على أن أنور لوقا قدم مساهمات كبيرة في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية، خاصة بعض كتب الدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم، ولكنّه وقف عند المصلح رفاع رافع الطهطاوي كثيرا، وخصص له عدة أبحاث من ضمنها رسالة دكتوراه، وهو مولع بهذا المصلح وبأفكاره المتقدمة، ومعجب كثيرا بطه حسين، حتى أنه سجّل رسالة دكتوراه معه، غير أن العميد كلف بأن يكون وزيرا للمعارف، مما ترك أنور لوقا يرحل إلى باريس ليعد رسالة في الأدب المقارن، ولذا فإن الأستاذ أحمد الشيخ الذي قام بتقديم للكتاب يؤكد على أن أنور لوقا، وغيره من المثقفين العرب في المهجر يقفون ‘على الحدود بين الثقافات في زمن الحروب الثقافية وصدام الحضارات الذي يعلو حينا ويهبط حينا آخر، لكن جذوته لا تزال ثاوية تحت الرماد تنتظر حدثا من هنا أو هناك لتشتعل من جديد.’ ( ص.7).
أما الدكتور تزار التجديتي، فهو يرى بأنه إن كان ‘الأستاذ إدوارد سعيد قد تتبع بدقة نشأة نظرة الغرب للشرق محللا ومنتقدا الذات المركزية الغربية، ثم وقف مليا عند أبشع مظاهر الامبريالية في الثقافة الأمريكية، فإن الأستاذ أنور لوقا ركّز أكثر على علاقات الاتصال والاكتشاف والتحاور بين العرب والغرب’ (ص.10). ولقد جسّد الدكتور لوقا هذه العملية في أبحاثه بحيث بحث من خلالها على تطور حركة التبادل بين ‘مصر والغرب دراسة تاريخية مقارنة بجلاء ظاهرة المؤثرات المختلفة بين الشرق والغرب’ (ص.10).
اهتم لوقا بدراسة المؤثرات التي تربط الفضاء ين وتتبع ذلك عبر الرحالة الفرنسيين الذين ذهبوا إلى مصر، أو المصريين أو العرب الذين جاؤوا إلى فرنسا، ودرس إمكانية التحاور والتبادل عبر ترجماته لبعض الكتاب الغربيين وعلى رأسهم الفرنسيين أمثال لا برويار وبلزاك. وبيير نيس، كما خصص رسالة الماجستير عن رحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس، ورسالة دكتوراه بعنوان: ‘رحالة وكتاب مصريون في فرنسا’، كما ترجم إلى الفرنسية كتاب الطهطاوي ‘تخليص الإبريز في تلخيص باريز′، إذ تؤكد الدكتورة كاميليا صبحي على أن لوقا (1927- 2006) المولود في صعيد مصر كان عمل على خطى الكبار وقدم الكثير وهي ترى ‘إن كان رفاعة وطه حسين قد أسهما إسهاما حاسما في تحديث الفكر الفلسفي، فقد أسهم أنور لوقا في إبراز هذا الدور والتأكيد عليه من خلال كتاباته، ونشر فكرهم التنويري في جميع المدن الأوروبية التي حل بها، وأثرى، ليس فقط المكتبة العربية وإنما الفرانكفونية أيضا، بأعمال عن الثقافة العربية التي عاش- رحمة الله عليه- خير سفير لها’ ‘ص.33.’.
أما الدكتور منجي الشملي فيرى بأن أنور لوقا واكب المعارف واهتم بالإضافة إلى الأدب المقارن بأحدث ‘المناهج في تحليل الخطاب أو عن أطرف التيارات في حقل الترجمة…يحذوه حب للمعرفة لا يعرف قيودا’ ( ص.40). وهذا ما يؤكد عليه الدكتور محمد أنقار الذي يرى بأنه في آن واحد ‘مؤرخ للأدب وللأفكار والحضارة ومقارن ومحلل للنصوص وبلاغي ومترجم وناقد أدبي وما إلى ذلك من الميادين التي تتكامل بينها أكثر مما تتنافر’ (ص.47). عرف أيضا أنور لوقا بترجماته من وإلى اللغة الفرنسية وخاصة دوره الكبير في الأدب المقارن، هذا ما يتطرق إليه الدكتور عبد النبي ذاكر الذي يرى بأن لوقا ‘من الرعيل الأول الذي بذر الجنينية للدرس الأدبي المقارن بالشرق العربي’ ( ص.89). لان الدكتور لوقا يرى بأن ‘الأكرم لنا أن نظل مستغربين على السليقة أي مستوعبين لعلاقتنا بالغرب، ونحن واثقون من أنفسنا ونسلك سلوك أنداده’ ( 94)، ويعرف كيف يحاورنا الند للند، ولا يملي علينا نظراته وتوجهاته المنطلقة من خدمة مصالحه بالدرجة الأولى، وهذه مسألة وعي بها المثقفون العرب المغتربون، لأنهم يمارسون هذا الحوار بشكل يومي كل في تخصصه، ويعطي الدكتور لوقا أهمية قصوى للترجمة، إذ يرى بأنها تضمن الاستغراب الإيجابي باعتباره دفقه دم جديدة تضاف إلى كياننا الثقافي، دون إخلال بتوازنه. أما الدكتور عمر مقداد الجمني فيؤكد على أن الدكتور لوقا كان من أوائل القائلين على أن ‘النهضة لم تكن أثرا لحملة نابليون بونابرت على مصر (1797) ولكنها أثرا لبعثة 1826 وتحديد أثرا لفكر الطهطاوي’، لأنه وحسب لوقا أن المؤرخين ‘دأبوا على تضخيم النتائج المباشرة لحملة بونابرت، وهذا ما تمتلئ به الكتب المدرسية ومراجع التاريخ، ولكن الحملة الفرنسية في نظره لم تكن ‘إلا لقاء عنيفا بين أبناء الغرب وأبناء الشرق، ولم يتح له قصر الأجل ولا روح المقاومة الشعبية من الاستقرار مما يؤدي إلى اتصال جليل النفع′ (ص.111).
أما الأستاذ أحمد الشيخ فقد أثبت الحوار الذي أجراه مع الدكتور لوقا الذي يؤكد على أن الشخصيات التي لعبت دورا بارزا في توجيهيه وتكوينه الثقافي ‘جان ماري كاريه الذي تعرفت عليه عندما زار مصر سنة 1950، وكان أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة في سنوات 1932- 1934′ ( ص.118)، ثم يتطرق إلى أهم الكتابات والمجلات التي أنارت له الطريق كمطلع أو كمساهم فيها بأبحاث ومقالات، وهو يرى بأن كلمة الاستغراب ‘فيها طاقة هجومية لذلك أريد أن أستبعدها من الحوار، فالحوار مع الغرب موجود منذ القدم، وفي الفترة الحديثة كان رفاعة الطهطاوي هو الرائد الذي جاء إلى فرنسا وورث تنوير القرن الثامن عشر، ومكث مدة طويلة في مناخ الحرية الثقافية والاحترام المتبادل جعله يتمكن من الحوار مع الآخر ومع نفسه’ ( ص.120). ثم يواصل شرح كلمة الاستغراب الذي يرى أنها ‘تنم عن معنى الانمحاء والجنوح وتعبر عن تهاوي قائلها إلى جانب معين..الأفضل لنا أن نبقى مستغربين على السليقة أي مستوعبين لعلاقتنا بالغرب ونحن واثقون من أنفسنا ونسلك سلوك أنداده’ (ص.121).
هذا بعض ما جاء في هذا الكتاب التكريمي المخصص لتلك القامة الفكرية والأدبية الكبيرة، الذي عمل كأستاذ في ليون وشغل منصب أستاذه جان ماري كاريه، كما عمل في عدة جامعات غربية، مما يبيّن ثراء جانبه الأكاديمي وتجربته الغنية في التدريس وفي الإشراف على رسائل جامعية مختلفة، وكذا تأليفه وترجمته لمجموعة كتب، حيث عمل كل ما في وسعه لإبراز الأنا الثقافية بإنشائه حوارا مثمرا ومتواصلا بين الذات والآخر، مما جعله يتبوأ مكانة السفير الحقيقي للثقافة العربية في الغرب. وهذا ما أجمع عليه المشاركون في هذا المؤلف، الذين أكدوا على أن الدكتور أنور لوقا، كان حريصا على الحوار، وهذا ما أكده أيضا، عدة مرات الباحث الفرنسي جان مارك دروان الذي صرح أن لوقا كان يجسد فعلا ‘صورة رجل الحوار بين الثقافتين الغربية والعربية’.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الملف التكريمي كان قد صدر في عدد خاص من مجلة ‘سيميائيات’ المغربية لمجموعة كتاب، مما يعكس الحرص على التواصل الثقافي بين المغرب و المشرق، فها هي كوكبة من الباحثين المغاربيين تكرم مفكرا مصريا، ورغم صدور هذا الملف منذ سنوات إلى أن الناشر والباحث المصري أحمد الشيخ قرر أن يرد على هذا التواصل بتواصل، وقام بتحويل هذا الملف إلى كتاب مع إضافات جديدة له وللدكتورة كاميليا صبحي، يعتبر هذا النوع من الكتب التكريمية عملا مرجعيا حول د. أنور لوقا، لأنه أولا غير تجاري، وثانيا يحمل عمقا إنسانيا وفكريا وحضاريا يكرم واحد من الرموز الثقافية، جهد يجب أن يشكر عليه لأنه يمثل التفاتة رائعة تهتم بها في أغلب الأحيان مؤسسات بحثية كبرى.
اترك تعليقاً