دفاعا عن التاريخ احمد الشيخ
June 25, 2013
‘دفاعًا عن التاريخ’ عنوان لقضية عامة، وعنوان لكتاب متخصص فى ‘المنهج التاريخى’، القضية العامة هى: قضية الدفاع عن التاريخ فى مواجهة من يشككون فى أهميته ومشروعيته، وجدواه للمجتمعات المعاصرة، أما الكتاب المتخصص فيدافع عن التأريخ، بوصفه مبحثًا علميًّا فى رصد، وتحليل وقائع الماضى، وأحوال الإنسان المتغيرة عبر الزمان، ضد من يشككون أيضًا فى جدوى، ومشروعية التأريخ؛ ناهيك عن التاريخ.
هذا الخوف من التاريخ والتأريخ، والتشكيك فى مشروعيتهما، ليس وليد اليوم، وإنما يعود إلى فترات قديمة قدم التاريخ ذاته، ومنذ بدأ الإنسان يشكل ذاكرته الخاصة، ويراكم معارفه، لكنه يشتد ويطرح نفسه بقوة فى أزمنة الاضطرابات، والاختلافات، والتحولات الكبرى التى تشهدها المجتمعات والحضارات، والتى تدفع الإنسانية إلى التساؤل حول ذاتها، والبحث عن الوسائل التى تسمح لها بتجاوز الأزمنة الصعبة.
ليس من قبيل المصادفة أيضًا أن المعركة حول التاريخ، والتأريخ قد شهدت ذروتها فى فترة ما بين الحربين العالميتين: فأمام هذا الموت والخراب الذى حل بالعالم، وأمام شعور البشر بأن التاريخ لا يسير إلى الأمام، وأمام انتقاد الثقة بالتاريخ وبمبادئ عصر التنوير ارتفعت تساؤلات كثيرة فى ثقافات مختلفة عن مسار التاريخ ومغزاه، وعن طبيعة التاريخ، وعن طبيعة الحقيقة التاريخية ، وعن إمكانية معرفتها، وحدودها، وجدواها.
وظهرت فى هذه الفترة الأعمال، والكتابات التاريخية الكبرى حول فلسفة التاريخ، وحول المنهج التاريخى، وحول مهنة المؤرخ (كتابات اشبنجلر، توينبى، كولنجود، كروتشه، روزين فايج، مارك بلوخ، لوسيان في’ر، فرنان بروديل، هنرى يرنى مارو … وغيرهم من رواد المدارس التاريخية الكبرى فى فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وإيطاليا..
ورافق كل هذا، وسبقه، تراث قديم من التشكيك فى التاريخ بدأ مع الفلسفة اليونانية القديمة التى وضعته فى ذيل العلوم؛ لأنه يبحث فى وقائع الماضى المتغيرة، وبالتالى يبتعد عن معيار الثبات الذى تتمتع به العلوم الحقة، وهو النقد الذى لا زالت أصداءه تتردد حتى الوقت الحاضر ، وأنه لا يمكن أن يكون علمًـا، ولا يمكن أن تتحقق له الموضوعية الحيادية المرتبطة بالعلم الحق، ناهيك عن اتهام التاريخ باختلاق الأكاذيب والخرافات، بل وهناك من الكتاب والفلاسفة فى العصر الحديث، والمعاصر من دعموا هذه الصورة السلبية عن التاريخ: فديكارت كان يراه عديم الفائدة، وكان بالنسبة لنيتشه ‘موضوع كره’ أو سخرية إذ كان يرى أن الإفراط فى التاريخ يضر بالأحياء، وأنه لا يحتوى أبدًا إلا على تأويلات متباينة، أما بول فاليرى فقد رأى أن التاريخ ‘أخطر ما أنتجته كيمياء العقل البشرى’ وأنه ‘يجعل الناس يحلمون، ويسكر الشعوب، ويجعلهم يستعيدون ذكريات خاطئة، ويضخم انفعالاتهم، ويترك جراحاتهم تنزف، ويعذبهم ويوقف جنوحهم إلى الراحة، ويخلق لديهم: إما هذيان العظمة، أو عقد الاضطهاد .
كما يسخر فاليرى من الادعاءات العلمية للتاريخ، والمؤرخين الذين يستخدمون -فى العادة- تعبيرات غير دقيقة، وخطرة مثل: ‘قرن’ و’شعب’، وفى كتابه الشهير ‘نظرات حول العالم الراهن’ أدان فاليرى بشدة ادعاءات المؤرخين فى إعطاء الشعوب دروس التاريخ وتعاليمه، وكان يناهض توظيف التاريخ من قبل الدول، والأحزاب، والقيادات السياسية التى تحول دون رؤية الحاضر كما هو فى الواقع، كما كان يتعجب من رفض المؤرخين توضيح تقاليد عملهم ‘ما أعيبه على المؤرخ هو قلة الوعى لديه بما هو عليه، وبالمهنة التى يقوم بها وبما ينتجه… فالمؤرخ ليس لديه فكرة تأمل فى ممارساته التقليدية، وقواعد اللعبة التى يلعبها، ولا يشك حتى فيما يقوم به.. وينسى أن الاختيار، والتصنيف، وتسمية الوقائع لم تفرضها طبيعة الأشياء، وإنما هى نابعة من طرق، وعادات تقليدية فى التفكير الحديث، والتى
لا تشك فى طابعها العارض والعشوائى’.
فى هذه الأجواء المناهضة للتاريخ، والتأريخ، والمؤرخين ظهر دفاع مارك بلوخ، وكتابه الشهير الذى عُثِر عليه بعد رحيله، وعلى صفحته الأولى عنوانان لم يكن قد حسم الأمر فى اختيار أحدهما، وهما ‘دفاعًا عن التاريخ’ أو ‘مهنة المؤرخ’، ولم يتردد ‘لوسيان في’ر’ – رفيقه فى تأسيس مجلة، ومدرسة الحوليات – فى ترك العنوانين معًا على غلاف الطبعة الأولى من الكتاب التى صدرت عام 1949، وإن كنت أرى أنهما يشكلان عنوانًا واحدًا، وأن ‘أو’ فى العنوان كان ينبغى أن تصير ‘و’ فمارك بلوخ يدافع عن التاريخ من خلال الدفاع عن مهنة المؤرخ، وضبط أصولها، وقواعدها، وتصحيح بعض ممارسات المؤرخين التى يرى أنها لا تخدم التاريخ ومهنة المؤرخ، وكان من نتيجة وجود ‘أو’ فى العنوان أن سمحت لبعض المترجمين أن يفضلوا عنوانًا على آخر، كما حدث فى الترجمة الإنجليزية للكتاب، والتى صدرت بعنوان ‘مهنة المؤرخ’ مع تجاهل تام للعنوان الآخر الذى يشكل هوية الكتاب ‘دفاعًا عن التاريخ’ مع اختفاء بعض الجمل، والفقرات من هذه الترجمة الإنجليزية…
لكن، كيف دافع مارك بلوخ عن التاريخ، والتأريخ، ومهنة المؤرخ؟
يبدأ بلوخ بتساؤل عن فائدة التاريخ، ويمنح السؤال أهمية كبيرة. وفى مسودة سابقة لكتابه وضع عنوانًا فرعيًّا: لماذا، وكيف يعمل المؤرخ؟ وهو ما يؤكد أيضًا مركزية الدفاع عن التاريخ بدءًا من عنوان الكتاب. وفى الصفحة الأولى من تقديمه يضع بلوخ هامشًا يسخر فيه من أولئك الذين يرون أن التساؤل عن جدوى التاريخ عديم الفائدة، وينفصل بلوخ هنا بصورة واضحة عن أستاذه القديم، والوجه الأبرز للمدرسة الوضعية المنهجية، وصاحب الكتاب الشهير: ‘المدخل إلى الدراسات التاريخية’..
وفى دفاعه عن التاريخ لم يقدم بلوخ دفاعًا تقليديًّا، أو تبريرًا لدور المؤرخ، وإنما ارتكز فى دفاعه على تقديم أدوات التاريخ وإجراءاته، وناقش فعالياتها، وحدودها، ودرجة اليقين التى يمكن أن يصل إليها المنهج التاريخى. وفى دفاعه عن التاريخ أيضًا لا يقدم إجابات مباشرة على سؤال: ما فائدة التاريخ؟ وإنما يقدم – فقط – الاتجاه الذى ينبغى البحث من خلاله عن إجابات لهذا السؤال .
يتناول بلوخ أولًا: بصورة ساخرة، النقد الموجه للتاريخ من خارج الجماعة التاريخية لدى بعض الكتاب أمثال: أنا قول فرانس، وبول فاليرى، لكنه يدخل – بكل ثقله – فى معركة الدفاع عن التاريخ، مع ممارسات بعض المؤرخين الذين يظنون أنهم يسدون خدمات جليلة للتاريخ بينما هم – فى الواقع – يسيئون إليه.
ينطلق دفاع بلوخ فى معركته داخل الجماعة التاريخية من خلال تقديم تصور جديد للتاريخ مختلف عن تصور رواد المدرسة الوضعية المنهجية السابقة عليه، منتقدًا الطابع السياسى لأبحاثهم، ومشككًا فيما يتصورونه من حياء مزعوم للمؤرخ أمام الوثيقة، أو الواقعة موضوع التأريخ، والتى كانوا يرون أن على المؤرخ أن يسردها كما هى، دون تدخل منه، وأن ينمحى أمامها تمامًا، بينما بلوخ – ومعه لوسيان فيفر – يرى على العكس: أن تدخل المؤرخ ضرورى، وفعال أمام الوثيقة، وأن ‘النظرية تسبق التاريخ’ وليس هناك شىء من تلقاء نفسه، ليس هناك شىء معطى، كل شىء يبنى كما يقول جاستون باشلار، و ‘عندما لا نعرف عمّ نبحث لا نعرف ماذا نجد!!’ .
كما كان يقول لوسيان في’ر، وأن عمل المؤرخ لا يمكن أن يبدأ فقط مع جمع الوثائق، وإنما هناك تساؤلات تسبق هذه المرحلة؛ كما أن المؤرخ لا ينبغى عليه أن ينغلق داخل التاريخ، وإنما عليه أن ينفتح دون خجل على العلوم الإنسانية الأخرى؛ وأن عليه أن يسير فى اتجاه تكاملية مناهج العلوم الإنسانية، وأن يهتم بما هو جماعى أكثر مما هو فردى، وأن عليه أن يمنح الأولوية للتاريخ الاقتصادى، والاجتماعى على التاريخ السياسى، أو تاريخ الزعماء والمعارف العسكرية، وأن يهتم بالإيقاع البطىء للتاريخ على حساب الإيقاع الحدثى والسريع، وأن يتخلى عن التاريخ القصصى السردى؛ لكى يتوجه نحو التاريخ الذى يطرح قضايا، وأسئلة كبرى من خلال وقائع التاريخ التى يسردها.
وفى بدايات دفاعه عن التاريخ يطرح بلوخ أيضًا تعريفًا جديدًا للتاريخ لا يكون موضوعه أحداث الماضى فحسب، وإنما الإنسان، وتحديدًا: البشر فى الزمان؛ مما يعنى ربط دراسة وقائع الماضى مع وقائع الحاضر، ولا يقتصر فقط على هذا التحديد والتعريف، وإنما يطرح ما ينبغى أن يكون عليه هذا التاريخ، فهو يقدم فى هذا الكتاب برنامج عمل للمؤرخين يرفض فيه أساسيات كثيرة شاعت بين جماعة المؤرخين: يرفض هوس البحث عن الأصول، ولا يقبل بفكرة الأصل كتفسير للحدث، ويرفض هوس إصدار الأحكام، كما يرفض بشكل عام أوهام قبيلة المؤرخين ، وأولها: الوهم السياسى الذى يحصر التاريخ فى نظام التاريخ السياسى والوقائع السياسية والحروب، وثانيها: الوهم الفردى الذى يتناول التاريخ بوصفه تاريخ أفراد أو زعماء، وليس كدراسة وقائع عميقة، ومؤسسات، وظواهر اجتماعية. وثالثًا: الوهم الإخبارى التسلسلى الحولى الذى يهتم بالتسلسل الزمنى، ويتجاهل المشكلات والقضايا الكامنة وراء الوقائع المتسلسلة.
وفى دراسته الرائدة عن مدرسة الحوليات تتبع فرانسوا دوس البعد الاستراتيجى فى عملية الدفاع عن التاريخ التى بدأها بلوخ مع في’ر منذ بداية تأسيسهما لمجلة الحوليات 1929، ويرى دوس أن سر نجاح مدرسة الحوليات يكمن فى استراتيجيتها فى استملاك إجراءات، ولغات العلوم الاجتماعية المجاورة للتاريخ: كإسهام المدرسة الجغرافية التى أسسها فيدال، والمدرسة السوسيولوجية التى أسسها دوركايم، والمشروع التأليفى لهنرى بار. وأوضح دوس: أن مارك بلوخ، ولوسيان في’ر كانت لديهم مرونة كبيرة، وحركية واسعة، وقدرة على إدماج ما يستهلكانه من حقول معرفية أخرى مجاورة للتاريخ، وكانت استراتيجيتهما الصارمة فى التحالفات المعرفية تسمح لهما بإقصاء الخصوم بسهولة كبيرة، وكما حدث مع رواد المدرسة الوضعية المنهجية السابقة عليهما، وأحيانًا يتم الإقصاء بصورة لا تحفظ للخصوم المكانة المستحقة لهم، مما دفع ببعض الباحثين إلى إعادة نظر فى الصورة التى رسمها بلوخ، وفي’ر للمدرسة السابقة عليها.
وكانت استراتيجية الدفاع التى اتبعها مارك بلوخ ترفض الذوبان فى العلوم الاجتماعية لكنها فى الوقت نفسه تتبنى إجراءات هذه العلوم، وتدمجها فى مناهجها ومفاهيمها، وهو ما قام به مارك بلوخ فى دراسته التأسيسية، والفريدة عن ‘المجتمع الإقطاعى’ حيث أدمج فيها مقولات سوسيولوجية، ووضعها فى خدمة التاريخ.
الدفاع عن التاريخ عند مارك بلوخ لا يعنى العمل على تراكم المعارف التاريخية وتدقيقها، وتصنيفها، وتحليلها، وإنما يعنى فى المقام الأول: تجديد المنهج التاريخى، وتجديد تقنياته، ومفاهيمه، وأساليبه المكتشفة؛ وهو ما دفع كارول فينك – التى كتبت أهم سيرة عن حياة بلوخ، وأعماله – إلى الحديث عنه بوصفه الأب الروحى لمنهج جديد فى البحث، سمح للتاريخ بأن يتجاوز أبعاد التاريخ التقليدى الثلاثة، وهى: السياسة، والحرب، والدبلوماسية، ليشمل مجمل الخبرة الإنسانية .
ملمح آخر من ملامح الدفاع عن التاريخ لدى بلوخ: هو النظر إليه كمهنة لها طرقها وضوابطها، وأخلاقياتها، وترتبط بتكوين المؤرخ، وتطور قدراته؛ ولا سيما قدرته على التعبير وتوضيح أدواته، ومفاهيمه. وقبل كتاب بلوخ لم تكن هناك سوى شذرات عابرة عن ممارسة التأريخ كمهنة، وتحليل ما يقوم به المؤرخ، وما يواجه هذه المهنة من تحديات، لكن فى عام 1941 – 1942، وفى ظروف مأساوية ‘حرر مارك بلوخ – كما يقول جى تولييه، وجان تولار – كتابًا بعنوان ‘دفاعًا عن التاريخ، أو مهنة المؤرخ’ وهو كتاب لم يكتمل’ ولهذا السبب كان عسير الفهم، وينبغى إعادة قراءته باستمرار، وهو ما شدد عليه بيتربورك فى تقديم الترجمة الإنجليزية للكتاب، حيث تساءل: لماذا ينبغى أن يقرأ هذا الكتاب أكثر من مرة؟!
غير أن أهم وجه من وجوه الدفاع عن التاريخ لدى مارك بلوخ يعود -فى نظري- إلى الأبعاد الأخلاقية التى ضمنها هذا الكتاب، والتى تبدأ منذ الوهلة الأولى التى ربط فيها بين التاريخ والحياة، فالمؤرخ بالنسبة له ليس متعهد الحوادث الماضية، وإنما هو من يضطلع بشئون الحياة والحاضر، قبل أن يكون منقبًا فى شئون الماضى البعيد، وهو يرى أن مهمة التاريخ والمؤرخ هى البحث عن الحقيقة، لكن الحقيقة عنده لا تنفصل عن الحق، وعن الحياة. وهو يرى أن التاريخ يخدم الحقيقة، لكن الحقيقة لا تظهر إلا فى المكان الذى يسود فيه الحق، والعدل أيضًا.
وهو عندما يطرح سؤال الحقيقة يجيب من خلال الممارسة العملية للمؤرخ، وليس من خلال التصورات النظرية المسبقة. وفى هذه الممارسة يتخلص المؤرخ من حال الحياد المزعوم والانعزال عن المجتمع، والسياسة الذى كان يشكل أحد الأركان الرئيسية للمدرسة الوضعية المنهجية التى نهض بلوخ ضد أطروحاتها، وقدم نموذجًا فريدًا جمع بين المواطن الصالح، وبين الإبقاء على المتطلبات العملية، وخاض معركة مزدوجة على صعيد البحث العلمى، وعلى صعيد العمل السياسى، أى: خاض معركة التاريخ بالمعنى الشامل للكلمة، وربط بين التاريخ والحرية.
وبعد أن كان – فى فترة الشباب – يؤمن بضرورة ابتعاد المؤرخ عن العمل السياسى أدرك فى أواخر حياته خطورة هذا الموقف، ومارس نوعًا من النقد الذاتى: ‘كان لمعظمنا الحق فى القول: بأننا كنا باحثين جيدين، فهل كنا حقًّا مواطنين صالحين؟؟… لقد فضلنا الانكفاء داخل الطمأنينة الخائفة فى مراكز عملنا، لعل مَنْ هم أصغر منا سنًّا يغفرون لنا الدماء التى تلطخ أيدينا’ . وقدم فى هذا السياق كتابًا فريدًا من نوعه أسماه ‘الهزيمة الغريبة’ ، يتناول فيه أسباب هزيمة فرنسا، واحتلال النازى لها. كان يكتب، ويشارك التاريخ الذى يتشكل حوله. كان ينظر بعين المؤرخ المدرب جيدًا على أسرار مهنته، كما كان يحلل ويتأمل – فى الوقت نفسه – الحدث بعين المواطن الملتزم. وفى هذا الكتاب الذى يشكل نموذجًا عمليًّا لما يسمى بـ ‘التاريخ الراهن’ تطرق لموضوعات هامة مثل: الأخبار الزائفة أثناء الحرب وطرق انتقالها، وكشف عن عيوب ومثالب رئاسات أركان الجيوش وقادتها، فى الوقت الذى عبر فيه بإعجاب عن نبل، وبطولات صغار العسكريين. كان يؤرخ للحاضر، وهو يثق بقوة التاريخ فى المستقبل.
ومن السمات الأخلاقية الأخرى التى تشكل ‘أخلاق الحقيقة’ لدى بلوخ حديثه – فى الفصل الثالث من الكتاب – عن ملاحقة الأكاذيب، والأخطاء فى الدراسات التاريخية، وكذلك تحذيره الدائم من التسرع فى إصدار الأحكام، بدلًا من الفهم والتفهم أولًا. والاعتراف أيضًا بالقصور عندما لا يكون اليقين متاحًا أمام المؤرخ، وأن عليه – والحال هذه- أن يتعلم كيف يقول: لا أعرف… كما يحذر من الوقوع فى ‘المغالطات التاريخية’ التى تنصب شباكها أمام كثير من المؤرخين؛ وكيف يمكن للأحكام المسبقة، والأحقاد، والمخاوف والميول أن تترك آثارًا سلبية على عقلية، وعمل المؤرخ.
كانت هذه بعض ملامح ثورة جديدة فى الكتابة التاريخية، دشنها هذا الكتاب؛ التى لم تسمح الأقدار لصاحبه أن يكمله إلى النهاية، وثورة للأبناء على الآباء الذين كانوا يكتبون التاريخ انطلاقًا من الوثائق المكتوبة فقط!! والذين كانوا يحصرون الكتابة التاريخية فى التاريخ القومى فقط، ويتجاهلون التاريخ العالمى، والتاريخ المقارن. وكما يقول أحد أبناء هذه المدرسة الجديدة: إن تأسيس مجلة الحوليات عام (1929) ثم كتاب بلوخ هذا -وأعماله الأخرى- يسمح لنا بالحديث عن ثورة فعلية فى تصور التاريخ، مهدت للبحث فى التاريخ الشامل الذى لا يترك جانبًا من جوانب المجتمعات والبشر: من تاريخ اقتصادى، وتاريخ تقنيات وتاريخ التغذية، وتاريخ الزراعة. كما يرى أحد كبار المؤرخين الفرنسيين أن هذا الكتاب الأشهر لمارك بلوخ، والذى حرره أثناء فترة المقاومة، وقبل فترة وجيزة من إعدام النازى له فى عام 1944، إنما يسجل اكتمالًا لنموذج إرشادى جديد (برادايم) لعلم التاريخ، وليس كما يقال – فى العادة – إنه يشكل نقطة انطلاق نحو تاريخ جديد.
لكن، ما صدى هذه المعركة العلمية، والسياسية حول التاريخ، ومكانته، ومستقبله فى مجتمعاتنا العربية؟ وأين نجد هذه النسخة العربية من النقاش حول التشكيك، أو الدفاع عن التاريخ فى الفكر العربى الحديث؟ وتحت أى مصطلحات، وفى أى سياق دار الصراع حول التاريخ، وحول علاقتنا به؟ وحول أسس كتابتنا للتاريخ؟ أى: علاقتنا بالتاريخ والتأريخ معًا؟ وإلى أى مدى بلغت محاولات الدفاع عن التاريخ، وتجديد هذا الدفاع منذ بواكير ما أطلق عليه: النهضة العربية الحديثة؟ وفى أى شىء يمكن لهذه الترجمة العربية لكتاب بلوخ ‘دفاعًا عن التاريخ’ أن تساعد – ولو من بعيد – فى إيقاظ الوعى بالتاريخ من جديد فى مجتمعاتنا؟ وهل نذهب إلى مرحلة بعيدة فى التفاؤل، وأن نحلم بثورة جديدة على تصورنا القديم لعلاقتنا بالتاريخ، وبثورة مماثلة على أنماط الكتابة التاريخية السائدة؟ وإلى أيهما نحتاج أكثر، فى هذه المرحلة الصعبة التى نمر بها الآن؟ وإلى منهج المدرسة الوضعية التى تسعى إلى ضبط، وتدقيق شروط المعرفة التاريخية الصحيحة أم إلى منهج الحوليات الذى أسسه بلوخ مع في’ر، على أنقاض المدرسة السابقة عليهما؟ أم كليهما معًا؟
كانت هذه التساؤلات، وغيرها تلاحقنى وأنا أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وكنت أنتقل من فعل التساؤل إلى فعل المقارنة مع كل صفحة من صفحات الكتاب، فعندما كان بلوخ يتحدث عن علاقة كل من الألمان، والفرنسيين بتاريخهم كنت أجد نفسى أفكر مباشرة فى علاقتنا نحن بتاريخنا، ومدى ما يكتنف هذه العلاقة من غموض، والتباس، وانقطاع، والتى ربما تكون مسئولة عن كثير من هزائمنا وإخفاقاتنا. وعندما كان بلوخ يلاحق الأخطاء، والأكاذيب فى الدراسات التاريخية كنت أرى أن ما ينبغى أن نقوم به فى هذا الشأن، يفوق بكثير مرحلة التصحيح، والملاحقة البسيطة. وعندما كان بلوخ ينتقد إفراط، وانغلاق المدرسة الوضعية فى ضبط، وتدقيق شروط المعرفة التاريخية كنت أفكر فى مدى حاجتنا أولًا إلى هذا الضبط، والتدقيق قبل أن ننطلق منه إلى مرحلة أعلى، وعندما كان بلوخ يربط بين الحقيقة، والحق كنت أفكر فى انفصال الحق، والحقيقة فى علاقتنا بالتاريخ، وفى كتابتنا للتاريخ، بل وربما فى غيابهما معًا.
غير أن فعل المقارنة -وأنا أترجم- قد وصل لأقصى مدى، وأنا أتابع تطور الوعى المنهجى الغربى بشكل عام، والتاريخى بشكل خاص، ومدى ما وصلنا إليه، نحن فى هذا المجال من تأخر هذا الوعى، ومن تأخر الكتابة التاريخية، بل ومن عدم الاطلاع الدقيق على مسار وتطور المناهج الغربية، وانتقالها من منهج إلى آخر، وكيفية هذا الانتقال، أو الصدام بين هذه المناهج، كما يكشف عنه هذا الكتاب فى صراعه وتقويضه لمنهج سابق عليه؟ وما يحمله هذا من تطورات حضارية، وإنسانية كبرى، فإذا كان الكثيرون يرددون مقولة ابن خلدون الشهيرة: إن الأمم، والحضارات تتأسس وتنهار بسيادة، أو غياب، العدل فيمكننى القول دون تردد: إن الأمم، والحضارات تزدهر وتأفل مع سيادة وأفول مناهج الفكر والعمل، فالمناهج الجديدة تؤسس لحضارات جديدة… وما أحوجنا إلى معرفة تاريخ، وتفاصيل المناهج التاريخية، وغير التاريخية التى تؤسس لمعرفة جديدة تسمح ببلورة وعى منهجى يفتح أمامنا الطرق المغلقة، ويعلن عن بدايات ننتظرها منذ زمن…
تبقى كلمة أخيرة عن هذه الطبعة الثانية من هذا الكتاب:
عندما أصدرت الطبعة الأولى فى مايو/ آيار الماضى كنت متفائلًا إلى حد بعيد!! وتوقعت أن يحدث الكتاب تأثيرًا كبيرًا لدى الجماعة التاريخية العربية، ولدى المهتمين بالتاريخ العربى وبقضايا البناء والنهضة الحضارية، لكن صدمتى كانت كبيرة – حتى الآن – إذ لم أجد حرفًا واحدًا، أو خبرًا، أو مراجعة، أو نقدًا لهذا الكتاب منذ صدوره!! باستثناءٍ وحيدٍ يعود إلى المؤرخ اللبنانى الدكتور: وجيه كوثرانى الذى قدم مراجعة للترجمة العربية للكتاب، والذى يعود له الفضل بالتعريف بهذا الكتاب عندما قدم له مراجعة سابقة؛ انطلاقًا من النص الفرنسى والتى صدرت ضمن كتاب له عام (1999)، وفى مراجعته الثانية أشار إلى المقارنة التى أجريتها فى تقديمى للكتاب بين دفاع سقراط، ودفاع بلوخ، مضيفًا تساؤلًا جديدًا يتعلق بمدى معرفة بلوخ بالمصير الذى كان ينتظره، مثلما كان سقراط على وعى بنتائج ما يقوم به؟ وفى الحقيقة، لم أشعر لحظة واحدة بالإسراف، أو المبالغة عندما قارنت بين دفاع بلوخ، ودفاع سقراط، وإنما هى مجموعة من المصادفات الغريبة التى وجدتها أمامى، وأنا أقوم بالمقارنة بين الدفاعين، وهناك من الباحثين من أدركوا أن كتابات مارك بلوخ الأخيرة، لاسيما كتابيه: ‘الهزيمة الغريبة’ و’دفاعًا عن التاريخ’ تسيطر عليها روح ‘الوصية الفكرية’ التى يتركها المعلم لمريديه قبل رحيله، فهو كان على يقين أن كتاباته، ونضاله السياسى ضد المحتل النازى قد يفضيان إلى نهاية مأساوية، وبالتالى كان مثل سقراط أيضًا على وعى تام بأن ما يقوم به سيجعله يدفع ثمنًا باهظًا!!
فى هذه الطبعة الثانية من الكتاب أضفت ملحقًا جديدًا يضم أهم المصطلحات الواردة فى الكتاب، مع شرح مبسط لدلالاتها؛ من أجل تسهيل مهمة القراءة، كما أضفت الكثير من الهوامش الجديدة أسفل صفحات المتن للتعريف بالشخصيات، والتسميات غير المألوفة أمام القارئ العربى، كما وضعت نص جيرار نواربيل – الذى قمت بترجمته من كتاب آخر – فى مقدمة هذا الكتاب؛ لما يتسم به من سلاسة، ووضوح، وعرض دقيق للقضايا الكبرى التى تضمنها كتاب بلوخ.
وفى النهاية، آمل ألا يكون مصير هذه الطبعة الثانية مثل سابقتها، وأن تحظى برعاية كبرى من مؤرخينا، وكتابنا، وطلابنا، وأن يغفر لنا القارئ الكريم ما قد يجده من بعض الهنات المصاحبة – دائمًا – للأعمال المترجمة، ونعد بإدراج كل ما يأتينا من تصويبات فى الطبعة القادمة من هذا الكتاب، كما لا يفوتنى فى النهاية توجيه الشكر والامتنان للزملاء، والأصدقاء الذين قدموا ملاحظات وتصويبات أفادتنى فى إعداد هذه الطبعة الجديدة؛ وأخص بالذكر: الدكتور وجيه كوثرانى، والدكتور صالح علوانى، والدكتور يحيى محمد، والأستاذ عبد الرءوف حبَّال.
فلهم منى جميعًا فائق التقدير والامتنان.
أحمد الشيخ
حلمية الزيتون – القاهرة
فبراير 2013
اترك تعليقاً